(قال): فبينما أنا مستغرِقٌ في لذة الخطاب، مُنصتٌ لسماع الجواب؛ إذ ناداني كلب من الكلاب، واقف على الباب. يلتقط ما يسقط على المزابل من اللُّباب. فقال لي: يا من هو من وراء الحجاب، يا محجوبًا عن مسبِّب الأسباب. يا مسبِلًا ثيابَ الإعجاب. تأدب بآدابي، فإنّ فعل الجميل دابي. وسُـسْ نفسَك بسياستي، واسمع ما أقول لك من فِراستي. وما عليك من خَساستي؛ فإن كنتَ تراني في الصورة حقيرًا، تجدني في المعنى فقيرًا. لا أزال واقفًا على أبواب سادتي، غير راغب في سيادتي. لا أتغير عن عادتي، ولا أقطع عنهم مودتي. وأحامي عنهم بنفسي، ولا أخاف رَمسِي. أُطرَد فأعود، وأُضرَب ولستُ بالحقود. فأنا الصاحب الوَدود، الباقي على حفظ العهود. أقوم إذا كان الخلائق رقود. وأصوم والخِوَان ممدود. وليس لي مال معدود. ولا وقت موعود. ولا سِمَاط ممدود. ولا رباط معهود. ولا مقام محمود. إن أُعطِيتُ شكرت، وإن مُنِعتُ صبرت. لا أُرَى في الآفاق شاكيًا، ولا على ما فات باكيًا. إن مرضتُ فلا أُعاد، وإن مِتُّ فلا أُحمَل على أعواد. وإن غبتُ فلا يقال: ليته عاد، وإن فُقِدتُ فلا تبكيني الأولاد. وإن سافرتُ فلا أستصحب الزاد. لا مال لي يُورَث. ولا عقار يُحرَث. إن فُقِدتُ فلا يُبكَى عليّ. وإن وُجِدتُ فلا يُـهَـشُّ إلي. وإن مرضتُ فلا يُمشَى إليّ. وأنا مع ذلك أحوم حول حِماهم، وأدوم على وَفاهُم. عاكف على مزابلهم. قانع بِطَـلِّـهم دون وابِـلِـهم. فإن أنت أعجبتْك خلالي، فاتبِعْ أحوالي. وإن أردتَ وفاقي، فتخلق بأخلاقي، وقل: سبحان الباقي، تصير إلى العُلا راقي، وفي ذلك أقول:
أنا كلبٌ حقيرُ قَدرٍ ولكنْ
لي قلبٌ خالٍ من الأدغال
فتعلّمْ حفظَ المودةِ مني
وتمسّكْ إلى العُلا بحبالي
أحفظُ الجارَ في الجوار ودأبي
أن أحامي عليهم في الليالي
وتراني في كل عُسْرٍ ويُسرٍ
صابرًا شاكرًا على كل حال
لا يُبالَى عليّ إن مِتُّ جوعًا
أو سقتني الأيامُ مُـرِّ النكالِ
لا يَراني الإله أشكو لخلقٍ
إذْ على اللهِ في الأمور اتكالي
أحمِلُ الضَّيمَ فيه صونًا لسِرّي
وفرارًا من مُرِّ ذُلِّ السؤالِ
فخلالي على خَساسة قدري
في المعالي يفقن كل خلالِ
~ ابن غانم المقدسي: كشف الأسرار في حِكَم الطيور والأزهار، بتصرف يسير ~
: فبينما أنا مستغرِقٌ في لذة الخطاب، مُنصتٌ لسماع الجواب؛ إذ ناداني كلب من الكلاب، واقف على الباب. يلتقط ما يسقط على المزابل من اللُّباب){kind=link}